الأربعاء، نيسان/أبريل 24، 2024

الأطروحات الطوباية... ليست طوباوية

لبنان
تروّج الطبقة الحاكمة بمختلف أطيافها إلى كون الأطروحات التي يقدمها خبراء واقتصاديون يساريون وماركسيون على أنها طوباوية، وأنها غير قابلة للتنفيذ، ولا تقدم الحلول الحقيقية للمشاكل القائمة.مقابل هذه الرؤى والأفكار، تجتهد الطبقة الحاكمة لتقديم ما يسمى "إصلاحات" يفرضها المقرِضون والمؤسسات المالية الدولية، وحتى مؤسسات يجري "استشارتها" على أنها الحل الممكن والبديل الوحيد. لكن من قلب الطبقة الحاكمة ظهرت مؤشرات دامغة على كون استمرار النموذج القائم لم يعد ممكناً، وكل "السياسات المالية" والهندسات التي تُرتكَب بذريعة الحفاظ على الوضع المالي، وتأمين استمراريته أصبحت هيكلاً من كرتون، لن يصمد أمام رياح خفيفة، وهو ما يؤكد أن البناء الاقتصادي القائم قد تآكل من الداخل، وبسبب حراسه الأوفياء، لا بسبب من وصفهم وزير الاقتصاد والتجارة السابق رائد خوري بالشيوعيين الذين يريدون تدمير الاقتصاد!

المؤشر الأول كان كلام وزير المالية، علي حسن خليل، الذي تحدث عن إعادة هيكلة الديون مطلع العام الحالي، ليعود ويتراجع عن أطروحاته جملة وتفصيلاً خلال أقل من أسبوع بعد استدعائه إلى قصر بعبدا، في اجتماع حضره رئيس جمعية المصارف، بالإضافة إلى المسؤولين الاقتصاديين.
المؤشر الثاني، يأتي عبر كلام وزير الاقتصاد والتجارة منصور بطيش (الذي سيتعرض لشيء يشبه ما تعرض له خليل في اجتماع الحكومة المقبل)، فالرجل الآتي من القطاع المصرفي، والذي يفترض أن يكون متشرّباً للأطروحات الليبرالية المتطرفة التي تسوّق لها جمعية المصارف بقضها وقضيضها، غرّد خارج السرب، وتحدث عن 8 نقاط ضرورية لإحداث إصلاح حقيقي، على رأسها تخفيض 1 في المئة من معدل الفائدة، وهو مقترح ترفضه كامل الطبقة الحاكمة وتهدد جمعية المصارف بالويل والثبور من تنفيذه، علماً أن زميله وزير المالية (والذي للمفارقة يتناقض فريقه السياسي بشكل صارخ مع فريق وزير الاقتصاد!) سبق وتراجع عن الطرح نفسه في قصر الرئيس (التيار الذي ينتمي إليه هو!).
على الرغم من أن أطروحات بطيش تعتبر متقدمة على ما تطرحه الطبقة الحاكمة، إلّا أنها لا تلحظ الدور الهدام للمصارف في لبنان، والتي عظّمت أموالها الخاصة من ما لا يزيد عن 195 مليون دولار عام 1992، إلى أكثر من 19.1 مليار دولار العام الماضي، عبر عملية النهب المنظمة المسماة الدين العام. علماً أن الأطروحات الاصلاحية لا ينبغي (بالضرورة) أن تكون جذرية، وهذا ليس مطلوباً من بطيش، لكنه ضرورة لإعادة الأمور إلى نصابها، وإيجاد حلول للأزمة، يمرّ بالمدخل الذي اقترحه الوزير، وإن لم يكن من اختراعه بالأساس. علماً أن أطروحاته المتعلقة بفرض ضرائب على الريوع المصرفية والعقارية، تؤمن جزءاً أساسيّاً من شروط الإصلاح المالي.
تبقى ردة فعل حاكم مصرف لبنان الدائمة والمتجددة على أي أطروحات شبيهة بما قاله الوزيران، في دائرته الضيقة يخرج سلامة ليؤكد أنه "أجبر" على ما فعل، أي ما وصفه منذ فترة البنك الدولي "بما يعمل وما لا يعمل" في إشارة إلى الهندسات المالية، واعتبر أنها زادت من المخاطر على المالية العامة في البلاد، في الوقت الذي يبرّر سلامة أفعاله بأنها السياسات الوحيدة للحفاظ على الهيكل من السقوط، في إشارة إلى غياب الموازنات والخطط الاقتصادية، وأنه يقدّم أفضل ما يمكن لمنع تردي الأوضاع أكثر. علماً أن تراكم هندساته، بالتضافر مع غياب السياسات الاقتصادية، وعدم إقرار موازنات، أدّى إلى تشوهات حادة في النموذج الاقتصادي القائم، تشوهات أسهمت في وضع الاقتصاد في خدمة المصارف لا العكس، وهو ما يدركه سلامة جيّداً، ولكنه لا يعمل إلّا على تعميقه.
أطروحات بطش "الطبقيّة"، في توجيه الدعم للمستحقين، وإحداث إصلاح حقيقي عن طريق إلغاء الصناديق والمجالس التي تستنزف مالية الدولة، وتنظيم إعفاءات ضريبية وحوافز للقطاعات الإنتاجية (الزراعة والصناعة) تحمل في طيّاتها مدخلاً لحلّ حقيقيّ للأزمة الاقتصادية التي تتفاقم ساعة بعد ساعة... أطروحاتٌ، لو افترضنا أنه تمّ توزير أحد الخبراء الاقتصاديين اليساريين وقالها، لحاربته السلطة بكامل أجنحتها عليها ووصفته بالمغرّض، ولكنّها للمفارقة أتت اليوم من وزير نما وترعرع في كنف الكيان المصرفي، وللمفارقة الثانية أنها تعبيرٌعن ضرورة حقيقية ومخرجٌ أساسيُّ كي لا يسقط الهيكل على رؤوس الجميع لا أوهاماً طوباية كما يحلو للهيئات الاقتصادية، ومن معها، أن تروّج كل صباح ومساء.